قال: اجتمع جرير والفرزدق والأخطل في مجلس عبد الملك، فأحضر بين يديه كيساً فيه خمسمائة دينار، وقال لهم: ليقل كل منكم بيتاً في مدح نفسه، فأيكم غلب فله الكيس، فبدر الفرزدق فقال:
أنا القطران والشعراء جربى ... وفي القطران للجربى شفاء
فقال الأخطل:
فإن تك زق زاملةٍ فإني ... أنا الطاعون ليس له دواء
فقال جرير:
أنا الموت الذي آتى عليكم ... فليس لهاربٍ مني نجاء
فقال عبد الملك: خذ الكيس، فلعمري إن الموت أتى على كل شئ.
ومن ذلك ما روى
أن جريراً اجتمع مع الفرزدق في مجلس عبد الملك، فقال الفرزدق: النوار بنت مجاشع طالق ثلاثاً إن لم أقل بيتاً لا يستطيع ابن المراغة أن ينقضه أبداً، ولا يجد في الزيادة عليه مذهباً، فقال عبد الملك: ما هو؟ فقال:
فإني أنا الموت الذي هو واقع ... بنفسك فنظر كيف أنت مزاوله
وما أحد يا بن الأتان بوائلٍ ... من الموت إن الموت لاشك نائله
فأطرق جرير قليلاً ثم قال: أم حرزة طالق منه ثلاثاً إن لم أكن نقضته وزدت عليه. فقال عبد الملك: هات فقد - والله - طلق أحد كما لا محالة، فأنشد:
أنا البدر يعشى نور عينيك فالتمس ... بكفيك يا بن القين هل أنت نائله
أنا الدهر يفني الموت والدهر خالد ... فجئني بمثل الدهر شيئاً يطاوله
فقال عبد الملك: فضلك - والله - يا أبا فراس، وطلق عليك. فقال الفرزدق: فما ترى يا أمير المؤمنين؟ فقال: وأيم الله لا تريم حتى تكتب إلى النوار بطلاقها. فتأنى ساعة، فزجره عبد الملك، فكتب بطلاقها وقال في ذلك:
ندمت ندامة الكسعي لما ... غدت مني مطلقةً نوار
وكانت جنتي فخرجت منها ... كآدم حين أخرجه الضرار
ولو أني ملكت يدي ونفسي ... لكان لها على القدر الخيار
وقد أفضى الحال إلى ذكر خبر الكسعي الذي تمثل به الفرزدق في الندامة
إذ الحديث شجون، واللسان غير مسجون، وهو أنه خرج يرعى إبلاً له في واد فيه حمض وشوحط، فرأى قضيب شوحطٍ نابتاً في صخرة صماء ملساء، فقال: نعم منبت العود، في قرار الجلمود. ثم أخذ سقاءه فصب ما كان فيه من ماء في أصله، فشربه لشدة ظمئه، وجعل يتعاهده بالماء سنة حتى سبط العود وبسق واعتدل فقطعه، وجعل يقومه، ويقوم أوده حتى صلح، فبراه قوساً وهو يرتجز، ويقول:
أدعوك فاسمع يا إلهي جرسي يارب سددني لنحت قوسي
وانفع بقوسي ولدي وعرسي ... فإنها من لذتي لنفسي
أنحتها صفراء لون الورس ... صلداء ليست كقسى النكس
ثم يرى بقيته خمسة أسهم وهو يرتجز، ويقول:
هن لعمري خمسة حسان ... يلذ للرامي بها البنان
كأنما قومها ميزان ... فأبشروا بالخصب يا صبيان
إن لم يعقني الشؤم والحرمان ... أو يرمني بكيده الشيطان
ثم أخذ قوسه وأسهمه، وخرج إلى مكمن كان مورداً لحمرٍ في الوادي، فوارى شخصه حتى إذا وردت رمى عيراً منها بسهم، فمرق منه بعد أن أنقذه، وضرب صخرة فقدح منها ناراً، فظن أنه قد اخطأ، فقال:
أعوذ بالله العزيز الرحمن ... من نكد الجد معاً والحرمان
مالي رأيت السهم فوق الصفوان ... يرمي شراراً مثل لون العقيان
فأخلف اليوم رجاء الصبيان
ثم وردت حمر أخرى فرمى عيراً فصنع سهمه كالأول وظنه أخطأ، فقال:
أعوذ بالرحمن من شر القدر ... أأخطأ السهم لإرهاف الوتر
أم ذاك من سوء احتيال ونظر ... وإنني عهدي لرام ذو ظفر
مطعم بالصيد في طول الدهر
ثم وردت حمر أخرى، فرمى عيراً منها بسهم ففعل سهمه كالأول، وظنه أخطأ فقال:
يا حسرتا للشؤم والجد النكد ... قد شفني القوت لأهلي والولد
والله ما خلقت في ذاك العمد ... لصعبتي من سبدٍ ولا لبد
أذهب بالحرمان مع طول الأمد
ثم وردت أخرى حمر أخرى، فصنع كالأول، فقال:
ما بال سهى يوقد الحباحبا ... وكنت أرجو أن يكون صائبا
إذ أمكن العير وأبدى جانباً ... وصار ظني فيه ظناً كاذبا
وخفت أن أرجع يومي خائبا ... إذ أفلتت أربعة ذواهبا
ثم وردت أخرى، فصنع كالأول، فقال:
أبعد خمسٍ قد حفظت عدها ... أحمل قوسي وأريد ردها!
أخزى الإله لينها وشدها ... والله لا تسلم عندي بعدها
ولا أرجى ما حييت رفدها ... قد أعذرت نفسي وأبلت جهدها
ثم خرج من مكمنه، فاعترضته صخرة، فضرب بالقوس عليها حتى كسرها، ثم قال: أبيت ليلتي، ثم آتي أهلي. فبات، فلما أصبح رأى خمسة حمرٍ مصرعة، ورأى أسهمه مضرجة بالدم، فندم على ما صنع، وعض على أنامله حتى قطعها وقال:
ندمت ندامةً لو أن نفسي ... تطاوعني إذاً لقتلت نفسي
تبين لي سفاة الرأي مني ... لعمر الله حين كسرت قوسي
وقد كانت بمنزلة المفدى ... لدي وعند صبياني وعرسي
فلم أملك غداة رأيت حولي ... حمير الوحش أن ضرجت خمسي
وقد روى في طلاق الفرزدق غير هذا، وليس هذا موضع ذكره.
أنا القطران والشعراء جربى ... وفي القطران للجربى شفاء
فقال الأخطل:
فإن تك زق زاملةٍ فإني ... أنا الطاعون ليس له دواء
فقال جرير:
أنا الموت الذي آتى عليكم ... فليس لهاربٍ مني نجاء
فقال عبد الملك: خذ الكيس، فلعمري إن الموت أتى على كل شئ.
ومن ذلك ما روى
أن جريراً اجتمع مع الفرزدق في مجلس عبد الملك، فقال الفرزدق: النوار بنت مجاشع طالق ثلاثاً إن لم أقل بيتاً لا يستطيع ابن المراغة أن ينقضه أبداً، ولا يجد في الزيادة عليه مذهباً، فقال عبد الملك: ما هو؟ فقال:
فإني أنا الموت الذي هو واقع ... بنفسك فنظر كيف أنت مزاوله
وما أحد يا بن الأتان بوائلٍ ... من الموت إن الموت لاشك نائله
فأطرق جرير قليلاً ثم قال: أم حرزة طالق منه ثلاثاً إن لم أكن نقضته وزدت عليه. فقال عبد الملك: هات فقد - والله - طلق أحد كما لا محالة، فأنشد:
أنا البدر يعشى نور عينيك فالتمس ... بكفيك يا بن القين هل أنت نائله
أنا الدهر يفني الموت والدهر خالد ... فجئني بمثل الدهر شيئاً يطاوله
فقال عبد الملك: فضلك - والله - يا أبا فراس، وطلق عليك. فقال الفرزدق: فما ترى يا أمير المؤمنين؟ فقال: وأيم الله لا تريم حتى تكتب إلى النوار بطلاقها. فتأنى ساعة، فزجره عبد الملك، فكتب بطلاقها وقال في ذلك:
ندمت ندامة الكسعي لما ... غدت مني مطلقةً نوار
وكانت جنتي فخرجت منها ... كآدم حين أخرجه الضرار
ولو أني ملكت يدي ونفسي ... لكان لها على القدر الخيار
وقد أفضى الحال إلى ذكر خبر الكسعي الذي تمثل به الفرزدق في الندامة
إذ الحديث شجون، واللسان غير مسجون، وهو أنه خرج يرعى إبلاً له في واد فيه حمض وشوحط، فرأى قضيب شوحطٍ نابتاً في صخرة صماء ملساء، فقال: نعم منبت العود، في قرار الجلمود. ثم أخذ سقاءه فصب ما كان فيه من ماء في أصله، فشربه لشدة ظمئه، وجعل يتعاهده بالماء سنة حتى سبط العود وبسق واعتدل فقطعه، وجعل يقومه، ويقوم أوده حتى صلح، فبراه قوساً وهو يرتجز، ويقول:
أدعوك فاسمع يا إلهي جرسي يارب سددني لنحت قوسي
وانفع بقوسي ولدي وعرسي ... فإنها من لذتي لنفسي
أنحتها صفراء لون الورس ... صلداء ليست كقسى النكس
ثم يرى بقيته خمسة أسهم وهو يرتجز، ويقول:
هن لعمري خمسة حسان ... يلذ للرامي بها البنان
كأنما قومها ميزان ... فأبشروا بالخصب يا صبيان
إن لم يعقني الشؤم والحرمان ... أو يرمني بكيده الشيطان
ثم أخذ قوسه وأسهمه، وخرج إلى مكمن كان مورداً لحمرٍ في الوادي، فوارى شخصه حتى إذا وردت رمى عيراً منها بسهم، فمرق منه بعد أن أنقذه، وضرب صخرة فقدح منها ناراً، فظن أنه قد اخطأ، فقال:
أعوذ بالله العزيز الرحمن ... من نكد الجد معاً والحرمان
مالي رأيت السهم فوق الصفوان ... يرمي شراراً مثل لون العقيان
فأخلف اليوم رجاء الصبيان
ثم وردت حمر أخرى فرمى عيراً فصنع سهمه كالأول وظنه أخطأ، فقال:
أعوذ بالرحمن من شر القدر ... أأخطأ السهم لإرهاف الوتر
أم ذاك من سوء احتيال ونظر ... وإنني عهدي لرام ذو ظفر
مطعم بالصيد في طول الدهر
ثم وردت حمر أخرى، فرمى عيراً منها بسهم ففعل سهمه كالأول، وظنه أخطأ فقال:
يا حسرتا للشؤم والجد النكد ... قد شفني القوت لأهلي والولد
والله ما خلقت في ذاك العمد ... لصعبتي من سبدٍ ولا لبد
أذهب بالحرمان مع طول الأمد
ثم وردت أخرى حمر أخرى، فصنع كالأول، فقال:
ما بال سهى يوقد الحباحبا ... وكنت أرجو أن يكون صائبا
إذ أمكن العير وأبدى جانباً ... وصار ظني فيه ظناً كاذبا
وخفت أن أرجع يومي خائبا ... إذ أفلتت أربعة ذواهبا
ثم وردت أخرى، فصنع كالأول، فقال:
أبعد خمسٍ قد حفظت عدها ... أحمل قوسي وأريد ردها!
أخزى الإله لينها وشدها ... والله لا تسلم عندي بعدها
ولا أرجى ما حييت رفدها ... قد أعذرت نفسي وأبلت جهدها
ثم خرج من مكمنه، فاعترضته صخرة، فضرب بالقوس عليها حتى كسرها، ثم قال: أبيت ليلتي، ثم آتي أهلي. فبات، فلما أصبح رأى خمسة حمرٍ مصرعة، ورأى أسهمه مضرجة بالدم، فندم على ما صنع، وعض على أنامله حتى قطعها وقال:
ندمت ندامةً لو أن نفسي ... تطاوعني إذاً لقتلت نفسي
تبين لي سفاة الرأي مني ... لعمر الله حين كسرت قوسي
وقد كانت بمنزلة المفدى ... لدي وعند صبياني وعرسي
فلم أملك غداة رأيت حولي ... حمير الوحش أن ضرجت خمسي
وقد روى في طلاق الفرزدق غير هذا، وليس هذا موضع ذكره.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
تعليقك يهمنا فالمرجو ترك تعليق