من كتاب الهوامل والشوامل

المسألة الأولى وهي لغوية
قلت أعزك الله: ما الفرق بين العجلة والسرعة؟ وهل يجب أن يكون بين كل لفظتين - إذا تواقعتا على معنى، وتعاورتا غرضاً - فرق، لأنك تقول: سر فلان وفرج، وأشر فلان ومرح، وبعد فلان ونزح، وهزل فلان ومزح،
وحجب فلان وصد، ومنع فلان ورد، وأعطى فلان وناول، ورام فلان وحاول، وعالج فلان وزاول، وذهب فلان ومضى، وحكم فلان وقضى، وجاء فلان وأتى، واقترب فلان ودنا، وتكلم فلان ونطق، وأصاب فلان وصدق، وجلس فلان وقعد، ونأى فلان وبعد، وحضر فلان وشهد، ورغب عن كذا وزهد.
وهل يشتمل السرور والحبور، والبهجة والغبطة، والفكه، والجذل والفرح، والإرتياح، والبجح على معنى واحد أو على معان مختلفة؟ وخذ على هذا؛ فإن بابه طويل، وحبله مثنى وشكله كثير.
فإن كان بين كل نظيرين من ذلك يفصل معنى من معنى ويفر مراداً من مراد، ويبين غرضاً من غرض، فلم لا يشترك في معرفته، كما اشترك في معرفة أصله؟.
وعلى هذا فما الفرق بين الغرض والمعنى والمراد، وها هو ذا وقد تقدم آنفاً؟.
وما الذي أوضح الفرق بين نطق وسكت، وألبس الفرق بين نطق وتكلم، وبين سكت وصمت؟.
الجواب: قال أبو علي أحمد بن محمد مسكويه: لما كنا نحتاج في الجواب عن هذه المسألة إلى ذكر السبب الذي من أجله احتيج إلى الكلام المصطلح عليه، والحاجة الباعثة على وضع الأسماء الدالة بالتواطؤ، والعلة الداعية إلى تأليف الحروف التي تصير أسماء وأفعالاً وحروفاً بالإتفاق والاصطلاح، والأقسام التي تعرض لنا بموجب حكم العقل - قدمنا بيان ذلك أمام الجواب؛ ليكون توطئة له، وليسهل علينا هذا المطلب، ويبين عن نفسه، ويعين على ما اعتاض منه، فأقول: إن السبب الذي احتيج من أجله إلى الكلام هو أن الإنسان الواحد لما كان غير مكتف بنفسه في حياته، ولا بالغ حاجاته في تتمة بقائه مدته المعلومة، وزمانه المقدر المقسوم - احتاج إلى استدعاء ضروراته في مادة بقائه من غيره، ووجب بشريطة العدل أن يعطى غيره عوض ما استدعاه منه، بالمعاونة التي من أجلها قال الحكماء: إن الإنسان مدنى بالطبع.
وهذه المعاونات والضرورات المقتسمة بين الناس، التي بها يصح بقاؤهم، وتتم حياتهم، وتحسن معايشهم، هي أشخاص وأعيان من أمور مختلفة، وأحوال غير متفقة، وهي كثيرة غير متناهية، وربما كانت حاضرة فصحت الإشارة إليها، وربما كانت غائبة فلم تكف الإشارة فيها، فلم يكن بد من أن يفزع إلى حركات بأصوات دالة على هذه المعاني بالاصطلاح، ليستدعيها بعض الناس من بعض، وليعاون بعضهم بعضاً، فيتم لهم البقاء الإنساني، وتكمل فيهم الحياة البشرية.
وكان الباري - جل وعز - بلطيف حكمته، وسابق علمه وقدرته، قد أعد للإنسان آلة هي أكثر الأعضاء حركة، وأوسعها قدرة على التصرف، ووضعها في طريق الصوت وضعاً موافقاً لتقطيع ما لا يخرج منه مع النفس، ملائماً لسائر الأخر المعينة في تمام الكلام - كانت هذه الآلة أجدر الأعضاء باستعمال أنواع الحركات المظهرة لأجناس الأصوات الدالة على المعاني التي ذكرناها وقد بلغت عدة هذه الأصوات المفردة المقطعة بهذه الحركات المسماة حروفاً - ثمانية وعشرين حرفاً في اللغة العربية.
ثم ركبت كلها ثنائياً وثلاثياً ورباعياً، وجميعها متناهية محصاة؛ لأن أصولها وبسائطها محصورة معدودة، فالمركبات منها أيضاً محصورة معدودة.
ولما كانت قسمة العقل توجب في هذه الكلم إذا نظر إليها بحسب دلالتها على المعاني أن تكون على أحوال خمس لا أقل منها ولا أكثر وجدت منقسمة إليها لا غير، وهي: أن يتفق اللفظ والمعنى معاً، أو يختلفا معاً، أو تتفق الألفاظ وتختلف المعاني، أو تختلف الألفاظ وتتفق المعاني، أو تتركب اللفظة فيتفق بعض حروفها وبعض المعنى وتختلف في الباقي.
وهذه الألفاظ الخمسة هي التي عدها الحكيم في أول كتبه المنطقية، وتكلم عليها المفسرين وسموها المتفقة، والمتباينة، والمتواطئة، والمترادفة، والمشتقة، وهي مشروحة هناك، ولكن السبب الذي من أجله احتيج إلى وضع الكلام يقتضى قسماً واحداً منها، وهو أن تختلف الألفاظ بحسب اختلاف المعاني، وهي المسماة المتباينة، فأما الأقسام الباقية فإن ضرورات دعت إليها، وحاجات بعثت عليها ولم تقع بالقصد الأول، وسنشرح ذلك بعون الله وتوفيقه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعليقك يهمنا فالمرجو ترك تعليق